اخر الاخبار
404
نعتذر , لا نستطيع ايجاد الصفحة المطلوبة

الثقافة والسلطات الثلاث – الدين، الدولة، المال

دور المثقف في صنع القيم الديموقراطية

علي السعدي

ظلّت إشكالية المثقف والسلطة، قائمة على إمتداد الأزمنة في سيرورة الحضارة، ففيما تشكّلت مصادر القوة والقرار من: المال – الدين – السياسة – على التوالي، كانت الثقافة تابعاً لإحد هذه المصادر، وبالتالي لم تخلق يوماً سلطتها الخاصة، رغم أن للثقافة الدور الأبرز في صنع الإنجاز الحضاري، بدءاً من أساطير الخلق والنشوء الأول للإجتماع البشري، وليس إنتهاء بآخر إكتشاف علمي جسدّته عبقرية الإنسان.

وفي الوقت الذي كانت فيه المؤسسة السياسة تصنع الحروب وتكرّس معنى الهيمنة والتسلط، عملت المؤسسة الدينية على القيام بالدور الأخطر في وضع حدود روحية بين البشر، بدءاً من كهنة المعابد القديمة، مرورا بما لعبه رجال الأكليروس في التاريخ الأوربي، وصولاً الى ما تمثله دور الإفتاء ومراكز الإجتهاد في الإسلام.

في كلّ ذلك وفي القلب منه، كانت الثقافة تشكّل جسر تواصل وتعاون فاعل بين الحضارات والشعوب، لكنها بقيت مجرد وسيلة إستخدام للطرف الأقوى.

الثقافة بشكل عام ، تتكون من مستويات ثلاثة هي:

1: المثقف – يمكن تعريفه بأنه الذي يعرف شيئاً من كلّ شيء، أو (المطّلع)، وتقع مادة إشتغاله الأساسية في إطار (الرأي).

2: المنظّر- وهو من يمتلك القدرة على فهم الفكرة المعرفية وهضمها ومن ثم شرحها منهجياً، ويمكن تسميته بـ(العارف)، أما مادتّه، فتقع في مستوى (الخطاب).

3: المفكّر- ذلك الذي يستطيع إنتاج الفكرة  المعرفية وصقلها وتطويرها،  أوتجاوزها لإنتاج فكرة أرقى، وهو مايطلق عليه (المعرفي) ومادة إشتغاله (الرؤية).

استناداً إلى ذلك، كيف يمكن الحديث عن واقع الثقافة العراقية وتحولاتها البنيوية، إنطلاقاً من المحاور التالية؟:

1- الثقافة والهوية الوطنية

أ: هل بإمكان الثقافة أن تسهم في بلورة الهوية الوطنية؟ وماهي مقومات ذلك في الثقافة العراقية؟

ب: في ظل التجاذبات الإثنية أو الطائفية أو السياسية التي شهدها العراق، هل تستطيع الثقافة أن تصنع حالتها الخاصة متجاوزة واقع بنيتها الإجتماعية وانقساماتها؟

ج: الثقافة العراقية بنيوياً، هل هي ديمقراطية بطبيعتها؟ أم استبدادية إلغائية؟

لاشك انها أسئلة تحمل إشكالياتها -وتجبر محاولات الإجابة على الوقوع بذات الإشكالية- فهي تعتبر الثقافة مصطلحاً ناجزاً في إكتمال المعنى، وبالتالي لايعاني من خلل في رسم حدوده ومعرفة قدراته، لتحديد من ثم المهام التي يمكنه الإضطلاع بها -كمصطلح ومعنى-.

اشتقاقاً من ذلك، يكون المثقف بمثابة مفهوم معرّف لا ينتابه اللبس، وهو عندما يُطالب بالقيام بدوره في إنجاز أو تحديد مفهوم آخر للهوية الوطنية، فإننا نفترضه كائناً متلألئاً بالصفاء، يستطيع أن يجترح الحلول التي يعجز عن إيجادها الآخرون، أنه حالة مهيأة ومستعدة لإنتاج المعرفة، شرط أن تكون صالحة لمعالجة المشكلات.

لكن ماينبغي اعتباره، إن الثقافة مفهوم مثقل بالمتناقضات، فبمقدار ماتثيره من هالة -بإعتبار ان المثقف واسع الإطلاع كما أسلفنا- فأنها مرافقة كذلك بما لايفيد، أو بماهو ممكن الإستغناء عنه، ذلك لأن الثقافة ترتبط بأذهاننا، بمايُسمع أو يقرأ، لا بما يُجسّد، بمعنى أنها ليست مسؤولة عن أنتاج الخبز أو زراعة حقل أو إنشاء مصنع أو إختراع آلة، لذا إرتبط المثقف بثنائيتي (الكسل والثرثرة) وان كان في ذلك ظلم له.

على ذلك، ظهرت المفارقة  بين الهالة المعرفية التي يعتقدها المثقف في نفسه وبالتالي تميزه عن الآخرين، وبين واقعه الفعلي الذي قد لايختلف عن الآخرين.

ولأن الكلام سدى الثقافة ولحُمتها، فأنه ينبغي أن يبقى حاضراً كـ(بضاعة) تحدد هوية المثقف وتشير إليه، فإنْ إستهلك الكلام الإبداعي -بما هو نصّ قصصي أو شعري أو مسرحي أو نتاج فكري- يتم الإستعاضة عنه بالكلام الإدعائي، مايشير إليه كثرة الإنقسامات الشخصانية بين المثقفين، التي تكون في العادة أكثر قدرة على الإيذاء والإستمرار، لأنها قد تنتقل من حالة شفاهية، إلى نصّ مكتوب يأخذ مكانه في الإستعادات المتكررة.

الثقافة بالمعنى (النصّي)، ليست ديمقراطية، إنها نتاج فردي يفترض تفوّقه واكتفاءه بذاته، وهي تبحث عن فردانيتها لتقدمها كمعطى ناجز للحرية، وإن تحوّل النصّ إلى عمل يتجاوز فردانيته ظاهرياً -كأن تُخرج الرواية فيلماً سينمائياً، أو تتحول قصيدة ما، إلى لوحة فنية- لكنه لايفقدها جوهرياً.

على هذا المبنى، فإن الثقافة قد تكون إطاراً عامة للهوية الوطنية، لكن يصعب على المثقفين أن يسهموا في بلورتها أو إنتاجها، إذ سيتم التعامل معها باعتبارها (نصّاً إبداعياً) بمواصفات فردية، وبالتالي تختلف النظرة إليها بإختلاف النصوص.

2- المثقف والقرار السياسي

أ: لماذا يكون المثقف فاعلاً في الإبداع ومبعداً في القرار؟

ب: التبعية والإحتواء أو الإستقلالية والفناء، تلك هي جدلية الثقافة والسلطة، هل من تغيرّات طرأت على واقع تلك المعادلة في العراق الجديد؟

ج: هل الثقافة ترف فكري، أم نتاج أخلاقي في إطارمجتمعي؟ وما العلاقة بين محتوى النصّ وسلوكية المثقف؟

كي يصبح القرارفي موقع الأمر، لابد له من آليات جمعية في التنفيذ، قد يُتخذ -كقرار- بشكل فردي ممن يمتلك السلطةالمخوّلة بذلك، لكنه قوة وقدرة، فالقرارمن دون القدرة، يكون بمثابة رجاء، وبالتالي يفقد تأثيره بمقدار ما يفقد من قيمته، ذلك يعني إستناده إلى تراتبية مؤسسة على شكل هرمي، يصدر الرأس القرار إبتداءاً من رأس الهرم، فتتحرك القاعدة لإيجاد الوسائل الكفيلة بتحويله إلى فعل.

أين موقع المثقف من تراتبية الهرم تلك؟ ذلك هو الإلتباس، فإن اقترب المثقف من الرأس، أصيب بالصداع، وإن كان في القاعدة، شعر بالإختناق، ذلك لأن الثقافة بميلها للتفلّت من الضوابط، لا تنسجم كثيراً مع المؤسسة بانضباطها ومركزيتها، لكن المثقف كمنتج للثقافة كما يفترض أو مشتغلاً بها، لايجد مناصاً للعيش في المؤسسة، إن كان بين ظهرانيها أودائراً في فلكها، فإن وضع في مركز القرار، سيجد نفسه منساقاً للقرار ومتطلباته، على حساب النصّ (وخيالاته).

إن المثقف والحالة هذه، يقع بين سلطتين: السياسة بامتيازاتها الواقعية الملموسة، والثقافة بانعكاساتها المعنوية -في أفضل الحالات- وفي الغالب الأعم، يجتذبه المتناول المحسوس، على حساب المعنى المتخيل.

ولما كانت السياسة معنية بصنع (القبح) فيما تسعى الثقافة إلى صنع الجمال، لذا كان التنافر بينهما متوقعاً أوحتمياً، وربما كان ذلك دافعاً لـ(غوبلز) وزير الدعاية النازي، ان يقول (أتحسس مسدسي، حين أسمع كلمة ثقافة).

المثقف هنا تتلبسه السياسة وتحتويه، نظراً لحاجته إليها، في وقت يتغذى فيه بالثقافة، لتبقى بالمحصلة شأناً جوانياً كمنتج، و(بضاعة) خارجية تتحدد قيمتها في مقدرة صاحبها على ترويجها، لتتحول من ثم إلى قيمة إجتماعية، لكنه إبّانها، محكوم بالمواءمة بين السياسة بغلظتها، والثقافة برقتّها، ذلك لأن  من صفات الثقافة (ومهماتها كذلك) تهذيب الذوق وصقل المشاعر وتهيئتها من ثم لتقبل الجمال، لذا يظهر الفارق -المتناقض غالباً- بين استقامة النصّ (المتعالي بطبعه) وسلوكية المثقف المستجيبة للإيقاع اليومي للحياة بواقعيتها المفروضة والمرفوضة -على حدّ سواء- من قبل المثقف.

المفارقة، ان السياسة تكون في الغالب (صادقة) في التعبير عن نفسها والإعلان عن أساليبها في تأدية الدورالموكل اليها، أما الثقافة، فتميل إلى (المراوغة) لإظهار مافيها من جمال، لذا قيل مثلاً (أجمل الشعر، أكذبه) وان كانت الثقافة أكثر شمولية وتنوعاً.

المعادلة أعلاه ماتزال قائمة بعناصرها الرئيسة في العراق، ولم يطرأ عليها تغيّر يذكر.

3- المثقف والسلطات الثلاث –المال –الدين –الدولة

مابين قيمة الثقافة وضرورة المال، كانت السطوة دائما للضرورة، فالمال حاجة ملحّة وملحاحة لايمكن الإستغناء عنها أو العيش من دونها، وبعكس الثقافة -المنبوذة  في العادة- يكون المال مطلوباً وموضع ترحيب شديد الوقع.

ذلك ماظّل قائماً طوال السيرورة البشرية، على تنوع مجتمعاتها ووسائل عيشها، وبالتالي لم تتمكن الثقافة من أن تصبح ضرورة بدورها، قياساً بالمال، ولا استطاعت إيجاد نوع من التكافؤ بين حاجة المال وقيمة الثقافة، فبقيت المعادلة مخّتلة لصالح الثروة.

أما المؤسسة  الدينية، فعلاقتها بالمثقف تأخذ شكلاً إحتوائياً، خاصة بعد انتمائه إليها، إنها ترفض -أو لاتحبّذ- حياديته -في الإبداع كما في السلوك- إذا أراد البقاء جزءاً منها، باعتبارها مؤسسة لها ضوابط ومهمة محددتين.

وفي حين يلعب تطور الوعي عند المثقف، دوراً في بحثه عن خلاص آخر خارج الأنساق التقليدية للخلاص اليوتوبي، فإن المؤسسة الدينية تتمسك بتقديم ذلك النوع من الخلاص باعتباره الوحيد الممكن يقينياً، لتكون المحصلة صراعاً داخلياً بين وعي يتفاعل مع معطياته ومستجداته، وثابت تليد بمطلقاته، ليهتز تبعاً لذلك نتاج المثقف كما سلوكياته.

الخلاصة: إن المنتج الثقافي العراقي بمساراته العامة، لم يخرج في الجوهر عن سطوة الدكتاتورية -بتكوينه كما بمفرداته واشتغالاته- وبالتالي فالحديث عن ثقافة عراقية "صافية" ينبغي الدفاع عنها -حتى لو كان انتقادها موضوعياً- يحتاج إلى مراحل أخرى طويلة من التطور والنمو، لتتراكم من ثم ثقافة تصنع هويتها المختلفة عمّا هو سائد، وليخرج المثقف من كونه تابعاً لثلاثي السلطة (المال- الدين- الدولة) فيؤطر شخصيته الإعتبارية الخاصّة، بعلاقة تفاعلية لا تفاضلية مع مصادر تلك السلطات، كي يتمكن بعدها، من المساهمة في صنع القيم.

شارك بتعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق